1
يقول الأديب والناقد محمد المختار ولد اباه "صعب على من لم ير المحاظر
أن يتصورها"[i]
وكم هي متعددة ـ كالمحاظرـ مكونات الثقافة الموريتانية التي يصعب على من لم
يرها تصورها، ومنها تلك الجامعات المتنقلة
التي تخرج منها جهابذة شعراء وعلماء أتقياء ونقاد أفذاذ قارعوا باسم شنقيط /
موريتانيا في أهيب المجالس وعنه نافحوا في أشهر النوادي وبه هتفوا في أكثر الأسواق
رواجا؛ فكان ابن التلاميد التركزي ينقب مكتبات باريس ولندن والأندلس بأمر من
السلطان العثماني عبد الحميد ويلقي ميميته الشهيرة في الموتمر الثامن للعلوم
الشرقية باستكهولم[ii]
بدعوة من الملك أسكار الثاني ملك السويد والنرويح أيامها... وكان بن الأمين الشنقيطي يفاخر بأرض شنقيط وأهلها
معتمدا على حافظته وينتقم لها ممن أنكرها ويعكف كذاك على الدرر ... وكان البيضاوي
الشنقيطي يسامر فلوبير ويرثي ذوي الجهالة في تارودانت ومراكش ... وكان ذالك
"البدوي... الهزيل ضعيف البنية ... ذو لحية مستديرة كثة عمرها ماعرفت مقصا
ولاموسى.. ورأس منفوش .. هو المختار ولد حامدن الأديب الكبير والعالم الشهير في
تلك الاصقاع."[iii]
.. وكان تحفة الكتاب وأيقونه النقاد ومفخرة شنقيط جمال ولد الحسن ... وكان ...
وكان...
ومن مظاهر تلك الثقافة المنسية ماقدم به محمد يوسف مقلد لقصة أول لقاء له
مع ابن خلدون الثاني المختار بن حامدن في كتابه شعراء موريتانيا القدماء والمحدثون
حيث يصف جماعة من الإخوان الموريتانيين .. يأكلون التمر والتشطار (لحم مقدد) في
ذالك الحانوت الصغير (الندوة) الذي كانت تفوح منه رائحة امنيجة (التبغ) وتتراكم
فيه أجربة الجلد (لمزاود) .. إلى آخر كلامه بتصرف... ومنها كذالك مربط فرس هذه
الأسطر وبيت قصيدها 'الأحمر' وما ادراك ما 'الأحمر' ؟؟
2
يطلق 'مصطلح' 'الأحمر' بين أوساط الطلبة هنا في المغرب على الشاي الموريتاني
.. فالأحمر إذن هو ذالك السائل الأحمر (أو الأصفر المشوب بحمرة) الذي يبهج النفس ويدخل
السرور والغبطة على الأرواح وهي واجمة هادئة في مهادها، فما إن تلتقط الأذن ذلك
الخرير الذي يحدثه الخيط الأحمر الرفيع الذي يشغل الفراغ الفاصل بين الإبريق
والكأس حتى ينتشي صاحبها طربا ويتمايل نشوة كتمايل الصوفي في محرابه. وللموريتانيين
مع الشاي قصة ذات شجون لايجمعها إيوان ولا يحصيها ديوان حتي تغنى به شاعرهم وغرد
به بلبلهم وسارت به ركبانهم وتساجل فيه الشعراء وتقاول فيه العلماء؛ وعدوه من
علامات الكرم واشترطوا له ثلاث "جيمات"... حتى قال شاعرهم وهو التجاني
ولد باب العلوي:
الضيف دون الآتاي اليوم مكرمه لـم
يجـد شيئـا وإن جـلـت فـوائـده
ومن سقى ضيفـه الأتـاي أكرمـه ولا
يــعــاب وإن قــلــت مــوائــده
جرت بذا عـادة الأيـام واشتهـرت والدهر لا بـد أن ترعـى عوائــده
وقال مغنيهم (شاعر شعبي) وهو الشاعر والأديب: عمر ولد حم الكنتي:
أتــاي أحن ذُ يجمــــعن مخـــــــلاه أعلـــين غالِ
أو هو رفيق أنَّ نحــــن في النـــــزول والترحالِ
وقد التحمت حياة الموريتانيين بالشاي التحاما وثيقا ومرت تاريخيا بعدة
مراحل منها مرحلة الندرة حيث لايتوفر الشاي إلا عند الميسورين ويحظر شربه على
النساء والاطفال وحتى المراهقين أحيانا حتى اشترطوا تقارب السن في جماعته وكرهوا
غيره:
يا ويح للشاي لا تصفو مشاربه لشاربـيـه لأن الـكـهـل شـاربــه
والطفـل شـاربـه مـنـا وشـاربـه منا الذي هو ما إن طر شاربــه
ويقول الرئيس وأبو الموريتانيين المختار ولد داداه والذي أعتبره مظهرا من
مظاهر الثقافة المطمورة في غياهب النسيان في مقطع طريف من مذكراته يصف فيه حظ أطفال
زمانه من الأحمر :
"كان لي الحق في ورق الشاي المطبوخ ودقيق قوالب السكر... وكان بامكاني
أن أضيف إلى أوراق الشاي المطبوخة دقيق السكر وآكلها مباشرة، أو أن أعد إبريقي من
الشاي بصب الماء الساخن في الإبريق على أوراق الشاي المستخدمة وإضافة دقيق السكر.
ولا يكون العصير الناتج عن هذه العملية مجرد ماء ساخن، لكنه لن يصبح كذلك شاياᵎ
وبالفعل فإن أوراق الشاي قد جادت بكل طعمها ولونها خلال عمليات طبخها الأولى. وبما
أن كمية الدقيق كانت في الغالب قليلة، فإن ما أشربه عبارة عن ماء فاتر قليل السكر.
ومع ذالك فقد كنت مسرورا لأني أعد " شايي" مثل أخوالي ومثل غيرهم من
الكبار"[iv]
3
وقد كنت مرة مع بعض الطلبة الجدد ـ وكلنا كنا جدد على المغرب ـ أواخر عام 2009 في حي القامرة الشعبي
بالرباط عاصمة المملكة المغربية؛ كان
يومها دوري في إعداد الشاي الذي تملي قواعد الطلبة أن يتم بالتناوب بعد كل وجبة،
وكنت ـ ومازلت تحدثا بنعمة الجليل ـ ممن حباهم الله بحسن الصنعة. كان عدد الطلبة
كبيرا نسبيا إذ يصل أحيانا إلى الأربعين وكان لابد أن أتحايل عليهم حتى أجد مخرجا
وعذرا عند من لن يسعهم الإبريق بمافيه، فقلت لهم لن يشرب من شايي هذا إلا من قال
"كافا" (بيت من الشعر الشعبي) أو "لغن" .. وياليتني ماقلتها
ومااشترطت ذالك الشرط ᵎᵎ فإذا بالكل امغنيين وشعراء وكاد الابريق أن ينفد لولا أن
البعض لم تسعفهم قرائحهم، وقد دونت بعض ماقيل واشترطت فيه شرطا دكتاتوريا أن لا
أدون إلا ماذكر فيه اسمي بحجة الخوف من أن يتبناه غيري ( إلا في بعض الاستثناءات
لحسنها لم استسغ إلا أن أدونها)؛ فكانت أمسية موريتانية بامتياز لم يمنعها بعد
الشقة واختلاف المعالم وتغير وجه الارض من أن تتدثر بدثور موريتاني أصيل وشنقيطي
بديع :
قال محمد ولد لمرابط :
كلن لغن ماابلغن
من الليف إل الياي
بسم الحيل إعود لغن إتردين من أتــاي
فاستحق كأسا ... وقال أخرى فاستحق آخر :
زين أتايك وإل انقاس تلحك مامن كاف
وآن محد الكاف كاس
اندور انتم ابكاف
وقال جد ولد البشير :
أتايك هذا اتكد
تشرط بالكفان
وآر كاسي محــد
كاف ذهُ عجلان
فاستحق كأسه .. وانتشى القاضي ولد سميدع طربا وقال:
شايك زيدان إبرك
والزمكه من مـــاه
زين والبدع إحرك
غير البداعه مــــــاه
فاستحق كأسا ... فثنى فثنينا له :
عدن لأتاي أنعمر
ومن اشروط فاشروط
كاف من المعن عمر
مولاه أجاب اشروط
فتمايل محمد محمود ولد سيدي عال وقد أثار ما سمع في نفسه مكنوناتها :
فالحك أتايك يزيدان ماه معتاد أكسان
مايشربهم ماه وزان بابيات ول كيفان
فاستحق كسابقيه عن جدارة كأسا ... لكنه زادنا فزدناه بدورنا :
زيدان أتايك يـون
حسين أذ ماه طاري
مان حاكم عن وزني
غير الوزن اعلي فاري
فتدخل المغني النح وكأن قطاره القادم من فاس تأخر قليلا وكاد أن يزري به
ولم يمنعه "بكط أزواد" الذي يحمل في حقيبته من ان يشاركنا سمرنا فقال:
زيدان اليوم امخبر عن نبغ فاجماعت
أغـن لبير إعمــــر فأتـاي امع حكايت
وطبعا لم يعجب أتاي زيدان الجميع .. فالحسن نسبي كما يقال .. ولذالك علق
محمد ولد مايمتس قائلا:
أتايك ذ لا تـــــغي به إيل كديت
محدنو مااتثني
من ما كنـــديــــت
استغل محمد ثغرة عدم اشتراطنا غرضا بعينه
.. فاستحق كأسا فشربه على وقع ضحكات الجميع من "كافه" .. ويبدو ان هناك من استغل ثغرة أخرى .. فقال لنا
: أما أنا فلم يحضرني 'كاف' فاسمحولي أن استحل كأسا بتبريعه ....:
أتايك يزيدان إذكرن موريتان
4
وبما أنني لم أكن ممن يحسن قرض الشعر ولاسبك القريض فقد فزعت بآمالي إلى
الرجز لأستحل به شفاه ذالك الكأس فقلت :
لولا كؤوس شـــاينا ذي مترعة بين أنامـــل هنا مفــرقعة
ورشــفة ساخنــة منعـــــنعه لبقيت أدمغة في المعمعـه
وقد قصدت ماقلت وإن لم أحسن التعبير عنه. فعلا لولا كؤوس الأحمر تلك بعد
الله لما تيسرت بعض من الامور كتعارف الشباب فيما بينهم ولم يكونوا قد تعارفو
وقتها عن كثب، وتصنيفهم إلى مجموعات حسب جودة الكيفان، وقد كان ذالك المجلس لبنة
تأسس عليها مابعدها من مجالس الشاي ولغن في بيوتات متفرقة من حي القامرة وفيما
بعدها بعد أن علم كل طالب مشربه واتجه إليه. وقد قصدت بالانامل المفرقعة عادة
كثيرا ما اعتدتها في انتظار نضج الإبريق واستوائه.
وكثيرا مااقترن الأحمر في الذهنية الشعبيه بالغن والشعر وأزوان والابداع
الموزورن إجمالا، ولا أدل على ذلك من كم الاعجابات والتعليقات التي استقطبتها صورة
نشرت حديثا على المواقع الإجتماعية للفنان الموريتاني سدوم ولد ايده يعد الأحمر تحت
خيمة وهو محاط بآلته التقليدية... ومن منا لم ينتش طربا وهو يتابع حلقة بثتها
التلفزة بمناسبة عيد من الاعياد يجيب فيها محمد ولد بوب جد عن سؤال لمحمد ولد
اصوينع عن إنتاجه الشخصي حيث يقول " أنخت جملي على مشارف لعيون في ليلة مقمرة
واضجعت على كثيب وقربت "تدنيتي" وقلت لغلام معي "عمّر" ... "
وقد كان الابداع من الحيل التي يتوارى وراءها السكاكة ليتحاشو الطرد من المجلس فكانو
كالندماء في مجالس الامراء يقول
محمد بن الصوفي (اباي):
قـل للمسـكـك قــد تكفـيـك واحــدة طول التسكك كالتعذيب في الجدث
لا تحسبن الكـؤوس الحمـر هينـة بـل إنهـا صعبـة مـا نلن بالعـبــث
وقد التمس الموريتانيون العذر "للورقة" ايا كان نوعها المهم ان
يعد بها الشاي إلى حين ميسرة ويقول قائلهم في ذاك وهو الحسن ولد ابا (المختار) الجكني:
إذا لم نجد إلا "النميلة" مشربا شربنا ولم نسمع مقالة ذي عذل
وإن وجد "المفتول" قلنا لنملـة مقالتها للنمل في سـورة النمــل
وقد رددت بزهو وغبطة على أحد أساتذتنا المغاربة بعبارة محمد المختار ولد
اباه السابقة عندما حدثنا عن افتخاره بغزو الشاي المغربي لأزقة وشوارع كاليفورنيا ونيويورك ... حيث تغازل نظرك لافتات
كتب عليها "هنا الشاي والحريرة المغربية"، فقلت له: ومشايكم إلى جانب
شاينا؟ ولو أن الموريتانيين رعوا الأحمر
حق رعايته وأكرموه وأنزلوه منزلته لأكلو من فوقهم ومن تحت أرجلهم .. ولكن ذالك
الزهو بدأ يخبو شيئا فشيئا فقد تذكرت أن الأحمر ماهو إلا رمز من رموز تلك الحضارة المنسية
ولا أستبعد أن يخرج علينا يوما خارج فيحصر سبب تأخرنا وفقرنا في تلك الكؤوس الثلاث
المترعة...